ثم رأيتُ النهج المتبعَ عند علماء هذه البلادِ البَدْءَ بسنن أبي داود ثم الترمذي ثم النسائي ثم ابن ماجة إن أَمْكَنَ وإلا فَمُسْلِمٌ ثُمَّ البُخَارِيُّ، ومِنْ شُيوخِنا مَنْ يُقَدِّمُ النسائيَّ علَى الترمذي لِتَقَدُّمِ النسائِيِّ فـي الصنعةِ الحدِيثِيَّةِ وَتَساهُلِ الترْمِذِيِّ وإِكْثارِهِ مِنْ ذِكْرِ الْخِلافِ، ومِنهُمْ من يَضُمَّ إلَى النسائِيِّ أَوْ بَعْـدَهُ مُوَطأَ مالكٍ؛ ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها. وَثَنَّيْتُ بِفِقْهِ المذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ مُقَدِّماً العِنايَةَ بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ رحمه الله لتَأَثُّرِي بِهِ مُنْذُ النشْأَةِ الأُولَى، ثم بِفِقْهِ المالِكِيَّةِ والْحَنَفِيَّةِ لأَسْبابٍ أَذْكُرُها إِنْ شاء الله فِي غَيْرِ هذا الموْضِعِ؛ وبالله التوفيق.
ومَنّ الله تعالى علي بصنعةِ التدريس فدرّسْتُ جميعَ ما قرأتهُ على المشايخِ أيامَ الطلب مِراراً وغيرَه مِنَ الكتب، ودرّسْتُ أصولَ التفسير بتلخِيصِ مَباحِثِ البرهان للزركشي والإتقان للسيوطي والتحبيرِ لـه أيضا، وكنتُ أطالِعُ وَقْتَ تدريسِهِ نحوَ أربعين تفسيراً ولله الحمد مُضافاً إلَى ما أَفدناهُ مِـنْ مشايخنـا رحمهم الله، ثم شرعت في تفسير الفاتحة إلى نِهايةِ قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ولـو جُمِعَ ذلك كانَ فِي نَحْوِ مجلَّدٍ إن شاء الله.
ثم لما منّ الله تعالى علي بالهجرةِ الْمَيْمُونَةِ من نَحْوِ سَبْعَةِ أعوامٍ عَقَدْتُ فِي ثَغْرِ كابُلَ ردَّها الله إِلَى المسلمينَ مَجالِسَ حديثيّةً في سُنَنِ أبي داود؛ معَ إملاء كثير من الفوائد على الطلاب، فتمَّ تمامُه بحمدِ الله تعالى في نَحْو خَمسين مجلساً، معَ إثباتِ السماعَاتِ لكُلِّ مَجْلسٍ ولِمَنْ حَضَرَ من الطلاب، ثم فـي سننِ الترمذي؛ فتمّ بحمد الله في نحو خمسة وخمسين مجلساً، سوى أحاديث يسيرةٍ تستغرق مجلساً واحـداً حال دونَ تَمامِه هذه الحربُ الصليبية فَلَعْنَةُ الله علَى الظالمين، وقدْ حَضَرَ جـميعَ مجاِلسِ الكتابينِ ولَـدي نفعَ الله بهِ، وأَضَفْتُ إلِى هذا كلِّه إِسْمَاعَ الطلاب كثيراً من الأجزاء الحديثية، ودروساً في النـحو والمصطلح وأصولِ الفقه، واستمرَّ الحالُ على ذلك عاماً كاملاً أو يزيد، وأَعْقِدُ فِي الغالب مجـالسَ الدرْسِ والإِمْلاءِ من بعد صلاة الفجر إلى قربِ الظهرِ وربما استمرَّ الدرس إلى ما بعد الظهرِ وأحيـاناً إلى المغرب، وفـي رَمَضانَ مِنْ بَعْدِ التراويحِ إلَى صلاةِ الفَجْر، والحمد ُلله كثيراً كثيرا.
وقد اختار الله تعالى كثيراً من التلامذة المذكورينَ وقُتِلُوا أَوائِلَ هذه الحمْلَةِ الصليبيةِ دِفَاعاً عَن الديـن وصيانةً للحُرُماتِ، رَحِمَهُم الله وتَقَبَّلَهُمْ مِنَ الشهداء؛ وجَمَعَ لَنا ولَهُمْ بَيْنَ شَرَفَي العلمِ والجهـاد فِي سبيله إنه تعالى جواد كريم.
ومما فتحَ اللهُ بِهِ عليَّ بَعْدَ أَنْ اشْتَدَّ عُودُ العلم واسْتَوى على سُوقِهِ ورَزَقَنِي اللهُ تعالى ما أُمَيِّزُ بهِ بين الحقِّ والباطلِ والصواب والخطأِ أنْ سَلَكْتُ مَسْلَكَ كَثيرٍ مِنْ مُتَقدِّمِي العلَماءِ فِي الطلب، وهو أننِي لا أَدَعُ علماً إلا وَوَلَجْتُ بابه؛ حاشا علماً دلّ الشرعُ علَى حُرْمَةِ النظر فيه كالسحْرِ والتَّنْجِيمِ ونحوِ ذلك، وما سوى ذلكَ فالقاعِدَةُ فيه ما ذكَرَهُ الشوكانِيُّ في أَدَبِ الطلَبِ؛ وهوَ مِنْ نفائِسِ كُتُبِهِ أنَّ العْلْمَ بالشيءِ أولَى مِن الْجَهْلِ بِه، ومتَى كانَ الطالِبُ عالـِماً بالفَنِّ كان حاكماً عليه، فإنْ جهـلِهُ كان محكومـاً علَيْهِ! وشتانَ بَيْنَهُما، ولكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لا يُقْدِمَ الطالِبُ علَى ذلكَ حتّى يَتَشَبَّعَ بِمَعْرِفَةِ مذاهـبِ أهْـلِ السنةِ والْجَماعَةِ رَحِمَهُمُ الله وما كان عليه سلَفُ الأمة عقيدةً وعبادةً وفقهاً وسلـوكاً حذراً مــنَ الوقُوعِ فِي مسالك البدَعِ ومَداحِضِ الأهواء.
وقد نفعني الله تعالى بذلك نفعاً عظيما وله وحده الفضل والمنة ، فطالعتُ كلَّ كتابٍ وقعَ تَحْـتَ يدي فِي كُلِّ فَنٍّ مِن الفُنُونِ مُطالَعَةً تامةً ولله الحمد؛ وقَيَّدْتُ فوائدَه حتى اجتمعتْ لديَّ آلافٌ منَ الفوائد؛ وكثيرٌ منها من غير مظانِّها؛ والفضل لله وحده.